الفصل الثاني: في السيرة منذ
البعثة حتى الهجرة إلى الحبشة:
الوقائع التاريخية:
أولا: نزول الوحي:
لما اقترب النبي صلى الله من سن الأربعين كانت تظهر عليه علامات النبوة، حيث
كان لا يرى رؤيا في المنام إلا جاءت مثل فلق الصبح (أي تتحقق كما رآها)، وكان يمر
على حجر مكة فيسمع السلام عليك يا رسول الله فيلتفت ولا يجد أحدا، وكان يحب الخلوة
بنفسة حيث كان يعتزل قومة ويختلي في غار حراء بجبل النور يتحنث فيه الليالي ذوات
العدد، وذلك بالتفكر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض، كما كان يتأمل في أفعال
قومه وما هم عليه من الوثنية والشرك، ولما تم له أربعون سنة من عمره نزل عليه الحق
في غار حراء في شهر رمضان، حيث جاءه جبريل عليه السلام فقال: اقرأ؛ قال: ما أنا
بقارئ (أي لا أجيد القراءة) قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال:
اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني
فقال: اقرأ؛ فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقرأ
باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم
الإنسان مالم يعلم} سورة العلق 1 – 6. فكانت هذه الآيات أول ما نزل من الوحي.
فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فرجع بها رسول االله صلى االله عليه وسلم يرجف
فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي االله عنها، فقال: زملوني، زملوني، فزملوه
حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة:
كلا والله لا يخزيك االله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ {الضعيف}، وتكسب
المعدوم، وَتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن
نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان ابن عم خديجة، وكان امرءا تنصر في الجاهلية، وكان
يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان
شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة:
يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له
ورقة: هذا الناموس -صاحب الوحي وهو جبريل - الذي نزل على موسى، يا ليتني فيها جذعا
- شابا قويا – ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول االله صلى الله عليه وسلم:
أو مُخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك
أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي «أي انقطع مدة.
ثانيا: فترة الوحي (انقطاع الوحي لفترة)
فتر الوحي مدة من الزمن لحكمة يعلمه الله، حتى شق على الرسول انقطاع الوحي،
وأحزنه ذلك كثيرا، وكان المشركون يستهزؤن به، ثم عاد الوحي ينزل، فنزل قوله تعالى:
"يا أيها المدثر قم فأنذر"، ثم تتابع نزوله.
ثالثا: الدعوة السرية
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تعالى، فبدأ بالدعوة السرية،
وكان أول من أسلم خديجة رضي الله عنها، ثم ابن عمه علي رضي الله عنه، ثم مولاه زيد
بن حارثة رضي الله عنه، ثم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكان أول من أسلم من
العبيد بلال بن رباح، ثم بدأ يدخل في الإسلام مجموعة من الناس سرا. ولم يكن مع
الرسول سيف يضرب به أعناقهم حتى يطيعوه صاغرين، وليس معه ما يرغبهم فيه، ولكن معه
نور الإيمان الذي لا يتخلى عنه من خالطت بشاشته قلبه، ولم يكن يظهر الدعوة في
مجامع قريش العمومية، وكان الذي يريد العبادة يذهب إلى شعاب مكة يصلي مستخفيا
واستمر الأمر على هذه الحال ثلاث سنوات يدعو فيها عقلاء القوم سرا.
رابعا: الدعوة الجهرية:
لما دخل في الدين ما يزيد على الثلاثين أُ ِمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن
يبلغ الدعوة جهرا، وذلك في قوله تعالى: "فاصدع بما تومر وأعرض عن المشركين"
الحجر:.19 كما امر كذلك بتبليغ عشيرته الأقربين في قوله تعالى " وأنذر عشيرتك
الأقربين" وبذلك بدأت مرحلة الإيذاء للمؤمنين، وسخرت قريش من الرسول صلى الله
عليه وسلم واستهزؤوا به في مجالسهم، وأرادوا إذايته والنيل منه فحماه عمه أبو
طالب، ثم اشتد الأذى بالمسلمين حتى قُتل منهم من قتل، وعذب منهم الكثير.
خامسا: الهجرة إلى الحبشة
في أواخر السنة الرابعة من البعثة اشتد أذى الكفار على المؤمنين، ولما رأى
الرسول تعنت قريش واستمرارها في تعذيب أصحابه قال لهم: "لو خرجتم إلى أرض
الحبشة، فإن فيها ملكا لا يُظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم
فيه"، فهاجروا للمرة الأولى اثنا عشر رجلا، وأربع نسوة بداية السنة الخامسة
من البعثة، ثم عادوا بعد أن علموا بإسلام عمر وإظهار الإسلام، لكنهم ما لبثوا أن
عادوا ومعهم آخرون من المؤمنين، وقد بلغ عددهم في الهجرة الثانية إلى الحبشة ثلاثة
وثمانين رجلا، ومن النساء إحدى عشرة.
سادسا: المقاطعة العامة وكتابة صحيفة الظالمة:
أجمع كفار قريش أمرهم على منابذة بني هاشم وبني المطلب وإخراجهم من مكة
والتضييق عليهم، فلا يبيعونهم شيئا ولا يبتاعون منهم، ولا يناكحوهم، ولا يخالطوهم،
ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا، حتى يسلموا محمدا للقتل، وذلك لما رأوا بأن المسلمين
قد أمنوا من عذابهم بعد هجرتهم إلى الحبشة، وابتكروا المقاطعة كأسلوب آخر لإحباط
الدعوة الإسلامية، وكتبوا بذلك صحيفة وضعوها في جوف الكعبة، واستمرت المقاطعة
سنتين أو ثلاثا، لقي المسلمون منها جهدا شديدا، حتى أكلوا أوراق الشجر، ثم انتهت
المقاطعة بمسعى عقلاء قريش.
الدروس والعبر المستخلصة
ü
إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن زعيما مجتمعيا ولا قائدا سياسيا ولا بطلا
مصلحا مما يطمح إليه البشر.. بل رسولا مكلفا بتبليغ الأمانة (الرسالة)
ü
إن الله تعالى يلقي في قلب من يحب كره العوائد المشينة في مجتمعه، توجيها له
لدعوة الخير واستقبالها.
ü
إن الرسول لم يطلب النبوة ولا كان يحلم بها، وإنما ألهمه الله الخلوة
للاستعداد لها روحيا.
ü
إن حديث بدء الوحي يفند كل الشبهات المثارة حول أمر الوحي والنبوة.
ü
الفكرة التي يؤمن بها الإنسان إذا كانت غريبة على المجتمع يجب أن لا يجهر بها
حتى يؤمن لها أسس النجاح، خاصة إذا تعلق الأمر بالعقيدة.
ü
من أساليب الدعوة وأسس نجاحها التعليم والتعلم والتربية على القيم.
ü
الرسول لم يكن يمثل في رسالته آمال العرب ومطامحهم. فهو صاحب رسالة وليس زعيم
قومية.
ü
ثبات المؤمنين على العقيدة رغم العذاب والاضطهاد؛ دليل على صدق الإيمان
والإخلاص في المعتقد.
ü
الاهتمام بالتربية والدعوة بأقرب الناس يكون عونا وسندا على أداء الرسالة.
ü
ضرورة الأخذ بالمرونة واليسر في الدعوة حسب مقتضيات الظروف والأحوال.