تقول الناشطة البريطانية آني بيزانت في محاضرة ألقتْها في الهند في عام 1903م: "إنه مِن المُستحيل على مَن يدرُس سيرة وشخصية النبي العربي العظيم، ويدرس كيف كانت دعوته وكيف كانت حياته، لا يَملِك إلا أن يشعر بالتبجيل والاحترام لهذا النبي العظيم الذي كان واحدًا من أعظم وأسمى الأنبياء جميعًا.
وقد أذكر لكم في كلامي أشياء قد تبدو مألوفةً ومعروفة عند كثيرين، ولكني شخصيًّا، كلما أعدت القراءة في حياته وسيرته، تَنتابني مشاعر جديدة من الاحترام والتبجيل لهذا المُعلِّم العربي العظيم.
ـ وقال صاحب قصة الحضارة ويل ديُوارَنت "إذا أردنا أن نَحكُم على العظمة بما كان للعظيم من تأثير في الناس، لقلنا: إن محمدًا كان من أعظم عظماء التاريخ، فلقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به حرارة الجوِّ وجدب الصحراء في دياجير الهمَجية.
لقد نجح محمد - صلى الله عليه وسلم - في تحقيق هذا الغرض نجاحًا لم يُقاربه فيه أي مُصلِح آخر في التاريخ كله، ومن النادر أن نجد إنسانًا غيره حقَّق ما كان يحلم به.
ولا شك أن هذه الشهادات التي تأتي من الغربيين ممن ليسوا على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم تجعلنا نتساءل:
ـ ما الأمر الذي وجدوه في محمد صلى الله عليه وسلم ليقولوا هذا الكلام ويكنون له كل التقدير والاحترام؟
ـ ما أهم الصفات التي أثارت انتباههم فيه صلى الله عليه وسلم.
نصوص الانطلاق:
1ـ قال عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا} سورة الأحزاب، الآية: 21
2ـ قال الله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} سورة القلم. آية: 4
شرح الكلمات القرآنية:
- أسوة: قدوة
- يرجوا الله: يبتغي حسن لقاء الله
معاني النصوص:
1ـ إخبار الحق عز وجل عباده أن محمد صلى الله عليه وسلم قدوتهم الحسنة، وأن اتباعه سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة.
2ـ تزكية الله تعالى لخلق النبي صلى الله عليه وسلم.
المحور الأول: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم النموذج الكامل والقدوة الحسنة
1ـ مفهوم القدوة:
هي النموذج والمثال الأعلى الذي يتبع في أقواله وأفعاله وتصرفاته.
2ـ أهمية القدوة وحاجة المجتمع إليها:
القدوة عنصر هام في المجتمع، لما لها من دور مهم في إرشاد أفراده وتوجيه سلوكهم نحو ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، ولو كان أفراد المجتمع صالحين فليسوا في غنى عنها، وقد امر الله تعالى رسوله الكريم وهو المثال والقدوة بأن يقتدي بمن سبقه من الأنبياء، قال عز وجل مخاطبا رسوله الكريم: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} سورة الأنعام، آية: 91.
وتشتد الحاجة إلى القدوة أكثر كلما بعد الناس عن أحكام الدين وانتشرت في المجتمع قدوات فاسدة تحسن عرض باطلها.
3ـ محمد صلى الله عليه وسلم قدوتنا الحسنة:
من حكم الله تعالى أن اختار محمدا واصطفاه من خلقه ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله نموذجا كاملا جمع كل المحاسن والمحامد، وقدوة لكل للناس في كل زمان ومكان وجعل مرضاته والفوز بجنته في اتباعه، قال سبحانه: {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} سورة الأحزاب: 21.
4ـ التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم دليل على صدق الإيمان
إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم، شرط لكمال الإيمان، فعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"، ولا يمكن الحديث عن محبة النبي إلا في اتباع سنته واقتفاء أثره صلى الله عليه وسلم، ومن تم يكون الاقتداء به من الإيمان ودليل على صدقه وكماله.
المحور الثاني: معالم الكمال الإنساني في شخص النبي صلى الله عليه وسلم:
1ـ عظمة خلق النبي صلى الله عليه وسلم:
يكفي النبي صلى الله عليه وسلم فخرا وشرفا شهادة رب العزة فيه، حيث قال فيه سبحانه مزكيا خلقه العظيم: {وإنك لعلى خلق عظيم} سورة القلم، كما وصفته أمنا عائشة رضي الله عنها في جوابها على من يسألها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قائلة: "كان خُلقه القرآن".
2ـ محمد صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة للعالمين:
فهو صلى الله عليه وسلم كله رحمة: قال الله تعالى:{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، سورة الأنبياء، آية 106. ووجوده أمان للأمة من عذاب الله تعالى، قال عز وجل: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} سورة الأنفال، الآية: 33.
3ـ حياء النبي صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، عن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشد حياءً من العذراء في خِدْرها ، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه".
4ـ حلم وعفو النبي صلى الله عليه وسلم:
الحلم هو الصفح عند المقدرة، وقد كان صلى الله عليه وسلم مدرسه في الحلم والعفو، حيث أوذي صلى الله عليه وسلم فعفا عمن ظلمه في الوقت الذي كانت له القدرة على رد الظلم، ومن ذلك عفه عن كفار قريش بعد ان فتح مكة وتمكن منهم فقال صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"
5ـ جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، لا يعرف قول لا، فما سُئِل عن شيء كان عنده إلا أعطاه، فعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة"
6ـ خشيته صلى الله عليه وسلم وطاعته لربه:
أعبد الناس وأقرب إلى الله بالطاعة محمد صلى الله عليه وسلم: فعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي ﷺ كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أحب أن أكون عبداً شكورا"
7ـ تواضعه صلى الله عليه وسلم:
محمد أشرف خلق الله، وسيد ولد آدم ومع ذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم يسعى إلى إطراء أو مجد، بل كان متواضعا يجلس حيث انتهى به المجلس، وإذا مر على الصبيان سلم عليهم، وكان يساعد أهله في بيته، وكان ينهى عن المبالغة في تمجيده، فعن انس ابن مالك رضي الله عنه
أنَّ رجلًا قال : يا محمَّدُ، يا سيِّدَنا وابنَ سيِّدِنا، وخيرَنا وابنَ خيرِنا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: عليكم بقولِكم ولا يستهويَنَّكم الشَّيطانُ أنا محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ، عبدُ اللهِ ورسولُه واللهِ ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي الَّتي أنزلني اللهُ _ عزَّ وجلَّ.
وما ذكر من معالم كمال النبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا قطرة ماء في بحر زاخر.
إثراء الدرس:
كان الذين من قبلنا مع العلماء والصالحين يعرفون للنبي صلى الله عليه وسلم قدره، وكانوا يجلونه ويوقرونه ويتأدبون مع حديثه، وخير نموذج في ذلك الإمام مالك رحمه الله تعالى حيث كان الناس إذا أتوه لطلب العلم خرجت إليهم جارية له فتقول لهم: يقول لكم الشيخ تريدون الحديث أو المسائل؟ فإذا قالوا المسائل خرج إليهم، وإن قالوا الحديث، دخل مغتسله واغتسل وتطيب ولبس ثيابا جددا وتعمم ووضع رداءه، فيخرج فيجلس على منصة وعليه الخشوع، ولا يزال يبخر المكان بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.