القسط: حق النفس: الوسطية والاعتدال
النصوص المؤطرة للدرس:
قال الله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} سورة البقرة، الآية: 142.
عن انس بن مالك رضي الله عنه قال: "جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي."
شرح المفردات:
وسطا: خيرية معتدلة
ثلاثة رهط: ثلاثة رجال
تقالوها: احتقروها وجعلوها قليلة مقارنة بأعمالهم
أصوم الدهر: أصوم العام كله
فمن رغب عن سنتي: من زهد في سنتي
معاني النصوص:
1ـ اكرام الله تعالى أمة محمد بالمنهج الوسطي المعتدل؛
2ـ رد النبي صلى الله عليه وسلم وتبرؤه ممن خالف نهجه الوسطي
المحور الأول: مفهوم التوسط والاعتدال ومجالاتهما:
1ـ مفهوم التوسط والاعتدال
التوسط لغة: من الوسط ومن معانيه العدل والخير والنصف، والاعتدال التوازن؛
واصطلاحا: لفظان متقاربان يفيدان العدل بين شيئين متناقضين ومتضادين، بحيث لا يُعطى أحدهما أكثر من الآخر فيطغى عليه، والوسطية منهج إسلامي يقوم على الموازنة بين مطالب الروح والجسد، وبين الدنيا والآخرة.
2ـ مجالات التوسط والاعتدال:
أرشَدنا ديننا الحنيف إلى التزام منهج الوسطية في مجالات كثيرة من أهمها:
- التوسط بين مطالب الدنيا والآخرة:
فالإسلام لا يُقِرُّ الرهبانية الداعية إلى الانقطاع للعبادة والزهد في الدنيا، كما لا يقبل الانحلال والتفريط في الآخرة، وإنما يوازن بينهما، قال عز وجل: {وابتغِ فيما آتاك اللهُ الدارَ الآخرةَ، ولا تنسَ نصيبك من الدنيا، وأحسنَ كما أحسن الله إليك} سورة القَصَص: آية 77.
- التوسط والاعتدال في أداء العبادات:
فلا ينبغي للإنسان أن يكلف نفسه ما لا تطيقه من العبادات فيرهقها، وإنما يعبد الله تعالى على قدر المستطاع، قال سبحانه: {لا يكلف الله نفسا الا وسعها}. سورة البقرة، آية: 285.
- التوسط بين أداء الحقوق:
حيث تتعلق بذمة المسلم حقوق كثير، يجب عليه أن يوازن ف أدائها، ولا ينبغي له الإفراط في بعضها على حساب بعض. عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عبد الله، ألم أُخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟»، فقلت: بلى يا رسولَ الله، قال: «فلا تفعل، صُم وأَفطِر، وقُم ونَم، فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لزَوْرك عليك حقًّا ..." (زَوْرِكَ: أي من يزورك من الناس كالأقارب والضيوف...)
- التوسط في تناول الطعام والشراب:
حيث يتناول المسلم من الطعام على قدر حاجته، ولا يخرج عن المطلوب، قال الله تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} سورة الأعراف، آية 29
- التوسط الاعتدال في اللباس:
وهذا لا يعني أن يلبس الإنسان الرَّثَّ والقبيح من الثياب، لكنه
ينبغي له الاقتصاد فيها، من حيث ثمنُها، وكميتُها، بلا إسراف ولا تقتير، وأن لا يجعل من ثيابه أيضا وسيلة للتبختر بين الناس، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من لبس ثوب شُهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب فيه نارا" الترغيب والترهيب للمنذري.
المحور الثاني: آثار التزام منهج الوسطية والاعتدال ومخاطر الابتعاد عنه:
1ـ آثار التزام منهج الوسطية والاعتدال:
من أهم آثار الالتزام بالمنهج الوسطي ما يلي:
- ضمان الاستمرار في العمل، والمداومة على العبادة:
بسبب تجنب السآمة والضجر، والملل من كثرة العمل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"، لأن ذلك يوفر على الإنسان الجهد والطاقة.
- ترغيب الناس في الدين:
من خلال المحافظة على منهجه الصحيح الذي يحببه في قلوبهم، قال صلى الله عليه وسلم: "يَسِّرُوا ولا تُعَسِّروا، وبشِّروا ولا تُنَفِّرورا".
- المحافظة على أداء الحقوق والواجبات والقيام بكل المسؤوليات:
مما يخلق نوعا من التوازن بين مطالب الروح والجسد، والنفس والغير. عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما قال:- قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عبد الله، ألم أُخْبَر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟»، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: «فلا تفعل، صُم وأَفطِر، وقُم ونَم، فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لزَوْرك عليك حقًّا.
- السير وفق المنهج الذي يجبه الله تعالى ويرضاه لعباده:
إذ الخير كلُّه في اتباع ما أمر الله به بلا تكلف، لنهي الله تعالى عن المغالاة والتشدد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحب الدين إلى الله الحَنِيفِيَّةُ السمحة" أي الدين الوسطي
2ـ مخاطر الابتعاد عن المنهج الوسطي:
لا شك أن الابتعاد عن المنهج الوسطي التي اختص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم له مخاطر من أهمها ما يلي:
- الفتور والانقطاع عن العبادة:
لأن التشدد فيها يجعلها تتغلب على الإنسان فيتهاون فيها، أو يتركها جملة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يُسر، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه"
- تنفير الناس من الدين، وتكريهه في نفوسهم:
قال صلى الله عليه وسلم معاتبا بعض صحابتِه بعدما أطال بالناس في الصلاة: "يا أيها الناس إنَّ منكم مُنَفِّرين، فَأَيُّكُم مَا صلى بالناس فليتجوَّز، فإن فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة."
- التقصير في أداء الحقوق والواجبات:
وذلك أن الصحابي الجليل أبا الدرداء رضي الله عنه لما أفرط في العبادة، أهمل حق أهل بيته وضيوفه، فأرشده أخوه سلمان بمثل أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص، في قوله " إن لربك عليك حقاًّ، لنفسك عليك حقا، ولأهل بيتك عليك حقا، فأعطِ كل ذي حق حقه".
- الوقوع في الغُلُو والتطرف المهلك للنفس:
مما يُخرج الإنسان عن المنهج الصحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هَلَكَ المُتَنطِّعون" أي المتشددون الذين يكلفون أنفسهم ما لا يُطيقونه.