سألك زيد قائلا: ماذا تفهم من قول الله تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ ﴾ سورة الكهف، الآية: 29، فقلتَ له: معناها أن الله تعالى خَيَّر عباده بين الإيمان والكفر، فكل إنسانٍ حرٌ في اختيارِ عقيدتِه مع تَحَمُّلِهِ مسؤوليةَ اختياره، ولا يجوز لأحد أن يُجْبِرَ أحدا على شيء...
ثم قال زيد: ولكن إذا كان الله قد ترك الحرية للعباد فلماذا وقعت الحروب بين المسلمين والمشركين، ألم يكُنْ النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل من أجل نشر دعوة الإسلام؟؟
بماذا يمكنك أن تجيب زيدًا ؟؟
هذه الوضعية تطرح إشكالا مفاده: إذا كان الله تعالى قد ترك للعباد حرية اختيار عقيدتهم فلماذا حارب النبي صلى الله عليه وسلم الكفار بالسيف، وهل هذا معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجبر الناس على الدخول في دين الله؟
وللإجابة عن هذا الإشكال يتطلب الأمر دراسة بعض غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل غزوتي بدر وأحد ستبينان لنا من أطلق الشرارة الأولى التي أوقدت فتيل هذه المعارك.
النصوص المؤطرة للدرس:
1ـ قال الحق سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اُ۬للَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمُۥٓ أَذِلَّةۖ فَاتَّقُواْ اُ۬للَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَۖ )123( إِذْ تَقُولُ لِلْمُومِنِينَ أَلَنْ يَّكْفِيَكُمُۥٓ أَنْ يُّمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاٰثَةِ ءَالاَٰفٍ مِّنَ اَ۬لْمَلَآٰئِكَةِ مُنزَلِينَۖ (124) بَل۪يٰٓ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَاتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَاٰفٍ مِّنَ اَ۬لْمَلَٰٓائِكَةِ مُسَوَّمِينَۖ (125) وَمَا جَعَلَهُ اُ۬للَّهُ إِلَّا بُشْر۪يٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِۦۖ وَمَا اَ۬لنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اِ۬للَّهِ اِ۬لْعَزِيزِ اِ۬لْحَكِيمِ (126)﴾ سورة آل عمران.
2ـ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اُ۬للَّهُ وَعْدَهُۥٓ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِۦۖ حَتَّيٰٓ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَٰزَعْتُمْ في اِ۬لَامْرِ وَعَصَيْتُم مِّنۢ بَعْدِ مَآ أَر۪يٰكُم مَّا تُحِبُّونَۖ مِنكُم مَّنْ يُّرِيدُ اُ۬لدُّنْي۪ا وَمِنكُم مَّنْ يُّرِيدُ اُ۬لَاخِرَةَۖ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْۖ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَي اَ۬لْمُومِنِينَۖ (152)﴾ سورة آل عمران.
شرح الكلمات القرآنية:
- وأنتم أذلة: ضعفاء قليلون؛
- وياتوكم من فورهم: المقصود الملائكة تنزل في الحال؛
- مسومين: معلمين؛
- صدقكم الله وعده: أنجز لكم النصر الذي وعدكم؛
- إذ تحُسُّونهم: إذ تقتلونهم؛
- أراكم ما تحبون: رأيتم أموال الغنائم؛
- ثم صرفكم عنهم: أبعدكم وأعاد الكرة عليكم؛
- ليبتليكم: ليمتحنكم.
معاني النصوص:
النص1: تذكير الله تعالى عباده المؤمنين بنصره لهم يوم بدر رغم قلتهم حيث توفرت فيهم شروط النصر.
النص:2: بيان الله تعالى بعض الأسباب التي كانت وراء ابتلاء المؤمنين وانقلاب نصرهم إلى هزيمة.
المحور الأول: غزوة بدر، الدروس والعبر
1ـ التعريف بغزوة بدر:
هي أول أشهر معركة كانت بين المسلمين والمشركين، وقعت في 17 رمضان من السنة الثانية للهجرة، كان عدد المسلمين فيها 314 رجلا بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم، أما عدد المشركين فكان 1000 ألفا بقيادة عمرو بن هشام، سميت بغزوة بدر نسبة إلى مكان وقوعها حيث توجد فيه بئر تدعى بدرا، وسميت في القرآن الكريم بيوم الفرقان، كما تسمى ببدر القتال وبدر الكبرى.
2ـ سبب غزوة بدر:
سببها هو خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليعترض قافلة تجارية لقريش قادمة من الشام في اتجاه مكة، يقودها أبو سفيان فلما سمع أبو سفيان بخبر خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليه أرسل إلى قريش يستنجدها، وغير هو مسار القافلة، فقدر الله أن يلتقي كفار قريش بجيش النبي صلى الله عليه وسلم ليقع بينهم القتال.
3ـ نتائج غزوة بدر الكبرى:
في هذه الغزوة نصر الله المؤمنين على أعداء الله نصرا مؤزرا، ومن مظاهر هذا النصر:
- قُتل من الكفار سبعين رجلا كما وقع سبعون آخرون في أسر المسلمين؛
- استرجاع المسلمين جزءا من أموالهم المسلوبة منهم من خلال غنائم الحرب؛
- إعلاء شأن المسلمين بعد هذه الغزوة وقوة شوكتهم.
- أما المسلمون فقد استشهد منهم أربعة عشر رجلا من الصحابة.
4ـ أهم الدروس والعبر :
يستفاد من غزوة بدر دروس كثيرة من أهمها:
- أن النصر لا يكون بكثرة العدد وإنما بالإيمان بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه، فقد كان المسلمون في 314 فقط، بينما كان المشركون في 1000 مقاتل، لكن المسلمين كانوا مسلحين بالإيمان.
- مشروعية رد الظلم والعدوان، فالكفار هم الذين اعتدوا على المسلمين بسلبهم أموالهم وطردهم من ديارهم، ولذلك أذن الله تعالى للمسلمين في القتال ردا على من ظلمهم فقال سبحانه: {أذن للذين يقاتَلون بأنه
- أهمية الدعاء والتوكيل على الله تعالى في النصر؛
- تقرير مبدأ الشورى؛
المحور الثاني: غزوة أحد، الدروس والعبر
1ـ التعريف بغزوة أُحد:
هي ثاني أشهر معركة كانت بين المسلمين والمشركين، وقعت في 7 من شوال من العام الثالث للهجرة، بعد بدر بعام، كان عدد المسلمين فيها 700 بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد خرجوا في 1000 تخلف 300 من المنافقين بزعامة عبد الله بن أُبَي بن سلول، أما المشركون فقد بلغ عددهم ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة أبي سفيان صخر بن حرب، سميت بأحد نسبة إلى جبل أحد الذي وقعت بالقرب منه.
2ـ سبب غزوة أُحد:
كان السبب الرئيسي أن قرشا لما لحقت بها الهزيمة في غزوة بدر تراجعت مكانتها بين العرب، فأرادت الثأر لنفسها من المسلمين لأجل استعادة مكانتها بين العرب، فقرروا غزو مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3ـ أهم نتائج غزوة أُحد:
في هذه الغزوة امتحن الله تعالى المومنين وابتلاهم حيث انقلب نصرهم في أول النهار إلى هزيمة مريرة بسبب عصيانهم أوامر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث استشهد من المسلمون 70 صحابيا جليلا منهم حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، كما وصل الأذى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشج وجهه الشريف وكسرت رباعيته.
4ـ أهم الدروس والعبر المستفادة من غزوة أحد:
تعلمنا غزوة أُحد دروسا كثيرة من أهمها:
- تقرير مبدأ الشورى حيث استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل الخروج لملاقاة قريس؛
- الالتزام بأوامر القائد سبب في الوحدة التي تحقق النصر؛
- عصيان أوامر الله ورسوله سبب كل بلاء يصيب المسلمين؛
- الهزيمة ليست نهاية الطريق وإنما هي امتحان لتصحيح الاخطا؛
- أن التعلق بشهوات الدنيا سبب الفشل الذي يصيب الإنسان؛
- مدى حب الصحابة الكرام للنبي صلى الله عليه وسلم؛
- أهمية حامل القرآن الكريم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يدفن في القبر الإثنين والثلاثة مع تقديمه لحافظ القرآن للقبلة؛
- الصبر والتضحية في سبيل دعوة الإسلام؛
- في هذه الغزوة امتحن الله المومنين ليميز الصالح من الطالح.
إثراء الدرس:
الجمع بين ترك الله تعالى حرية اختيار العقيدة وبين جهاد النبي صلى الله عليه وسلم:
الله عز وجل أمر رسوله الكريم بتبليغ الدين، ولم يأمره بإكراه أحد بالسيف للدخول فيه، قال الله تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ ﴾ سورة البقرة، الآية: 255، وقال عز جل: ﴿ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ سورة المائدة، الآية: 101. لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما سعى في مهمته وغايته اعترضوه وآذوه وعذبوا أصحابه، بل وطردوهم من ديارهم، فجاء الإذن من الله برد العدوان، حيث نزلت آيات من كلام الله تؤكد أن المشركين قد تجاوزوا حدود الله وظلموا عباد الله، قال سبحانه: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(37) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ ...38﴾ سورة الحج.
والخلاصة أن الجهاد كان إذنا من الله لرد العدوان، وليس إجبارا للناس على الدخول في الدين.
هل المسلمون كانوا قطاع طرق لأنهم اعترضوا قافلة قريش التجارية
أسلفنا الذكر بأن المسلمين كانوا مضطهدين في مكة بداية الدعوة، فخرجوا منها مطرودين
قال الله تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ سورة الحشر، الآية 8، فقد بينت الآية أنهم لم يختاروا لأنفسهم الخروج وإنما أخرجوا منها مكرهين، تاركين وراءهم كل شيء، ولا شك أن أموالهم قد استولى عليها كفار قريش فتاجروا فيها، فمن حق المسلمين حينئذ أن يعترضوا قوافلهم لاسترجاع حقوقهم، وقد ذكرنا أعلاه الآية التي أعطاهم فيها الله تعالى الإذن برد العدوان ووعدهم بنصرهم.
حول الغزوة
الغزوة من الغزو، والغزو معناه السير إلى القتال، وفي اصطلاح أهل السيرة فإنهم أذا ذكروا الغزوة فيقصدون بها كل معركة كانت بين المسلمين والمشركين وحرها النبي صلى الله عليه وسلم، أما المعركة التي لم يحضر فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيطلقون عليها لفظ "السًّرِية"، إلا غزوة مؤتة في يسمونها غزوة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحصر فيها.